أنشودة في حب روائع الفن الشركسي تسعى إليها فرقه نادي الجيل الجديد
تسعى فرقه نادي الجيل الجديد للفولكلور الشكرسي، لإحياء الموروث الشركسي الذي تغنّى به الشعراءُ وأشاد به الكتّابُ على مر الأزمان.
تتمتّع عمّان بنسيج اجتماعي ثري يجمع كثيرًا من الثقافات والأعراق التي تحتفظ بتاريخها وعاداتها وتقاليدها المشتركة. وقد شكّل هذا التراث الثقافي الفريد في العاصمة الأردنية أساسًا لقصص مجتمعات عدة، وخاصة المجتمع الشركسي. وبفضل ثرائهم الثقافي في الموسيقى والفلكلور والرقص، كان للفن دوراً مساهماً استطاع من خلاله الشراكسة الحفاظ على تاريخهم والاحتفال بتراثهم في بلدان المهجر، رغم الإبادة الجماعية التي تعرّضوا لها. والفن بالنسبة لشعبها يعدّ الحقيقة والدليل على نُبل الوجود الإنساني. ويوضح محمد كتاو، رئيس نادي الجيل الجديد ورئيس مجلس الإدارة قائلاً: «إذا كنّا نعتقد أن ’الحق والخير والشجاعة‘ هي المُثُل التي يسعى إليها الإنسان في رحلته عبر الزمن، يظل الفن هو الأساس المتين لهذه القيم، ومن دونه لن يكون للحق والخير والشجاعة أي وجود».
والشركس هم جماعة عِرقية تنحدر من منطقة شركيسيا التاريخية التي تقع على طول الشاطئ الشمالي الشرقي للبحر الأسود، وتتميّز بأراضٍ خصبة وطبيعة جبلية. وقد تعرض الشعب الشركسي للاضطهاد والتهجير القسري على يد الإمبراطورية الروسية خلال القرن التاسع عشر، ما أدى إلى قتل عدد كبير منهم وتشريدهم. وتفرّق معظمهم في أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية.
ورغم مأساتهم، فقد منحتهم هجرتهم إلى عمّان منبرًا وفرصة مكّنتهم من الحفاظ على قصص الشعب الشركسي من خلال إنشاء النوادي الثقافية، حتى أضحت ممتزجة بنسيج البنية الاجتماعية الأردنية. وعن ذلك يقول كتاو: «بناء على هذه المفاهيم والإيمان بضرورة الحفاظ على التراث والتقاليد والفن الشركسي الأصيل، تأسس نادي الجيل الجديد عام ١٩٥٠ للاحتفاء بالتراث الأردني الشركسي في منتصف ستينيات القرن الماضي. ورغم محدودية مواردنا، تمكنّا من تحقيق ذلك بفضل جهود المفكرين الشراكسة والأردنيين الشباب ووعي أعضاء نادي الجيل الجديد ومؤسسيه. وأصبح النادي سفيرًا للفلكلور الشركسي في المنطقة». وقد أتاح ذلك فرصة التبادل الثقافي، وإحياء الثقافة، ونشر الوعي بالثقافة الشركسية بين سائر الثقافات في عمّان، ومن ثَم إثراء هذه المدينة المتعددة الثقافات.
ويوضح كتاو إلى جانب ذلك الطابع الفريد للمجتمع الشركسي في الأردن قائلاً: «يعد الشراكسة في الأردن من السكّان الأصليين لكلٍ من الأردن ووطنهم الأم، شمال القوقاز. وقد وصل الشراكسة إلى الأردن في سبعينيات القرن التاسع عشر واستقروا في أكثر مناطق عمّان تنوعًا، مثل وادي السير، وناعور، ووسط مدينة عمّان. وكانت تلك المناطق في الأساس قرى شركسية قبل تأسيس الدولة الأردنية الحديثة. وكثيرٌ من الشخصيات التي لعبت أدوارًا مهمة في تاريخ الأردن كانت من أصول شركسية، على سبيل المثال كان أوّل جندي في الجيش الأردني وأول رئيس بلدية لعمّان وأول مفتي للأردن من الشركس. كما لعبت نساء الشراكسة أدوارًا مهمة، فكانت أول سيدة تحصل على عضوية مجلس النواب الأردني شركسية، ولا تزال تجربتها فريدة حتى يومنا هذا».
ويعد التراث الشعبي لسكان المرتفعات ثريًا بالموضوعات الجبلية والريفية والأغاني والأزياء المستوحاة من مرتفعات القوقاز والمميّزة برقصات آسرة، وحركات شديدة التعقيد بالأقدام، ولوحات فنية تستحضر روح الهوية والفخر والانتماء. ويقول محمد شحالتوغ، رئيس اللجنة الفنية: «لعب الفلكلور الشركسي دورًا مهمًا في هيكلنا الاجتماعي عبر التاريخ. ويكشف الرقصُ الكثيرَ عن هويتنا وتاريخنا وطريقة تفكيرنا. ونلتزم في نادي الجيل الجديد بنشر الرسائل الثقافية والقصص التاريخية باللوحات الفولوكلورية
التي نقدّمها. ولكل لوحة قصتها الخاصة التي تتفق مع الأفكار والموضوعات التي تريد ثقافتنا إيصالها».
ويضيف يزن كسبي، عضو إدارة / عضو ارتباط اللجنة الثقافية، قائلاً: «لأن ثقافتنا ثرية بالتقاليد والقصص والأحداث المهمة، نحاول بوجه عام تسليط الضوء على هذه الموضوعات فيما نقدّمه من عروض، كما نختار فكرتها المحورية بحسب المناسبة. وعلى سبيل المثال، في مشاركتنا في حفل جرش عام 2017، سلطنا الضوء على قصة التهجير القسري للشراكسة ومساهمتنا في بناء الأردن». ويُعرَف الرقص الشركسي بحركاته الانسيابية الرشيقة على أنغام الموسيقى التراثية. وعنه يقول شحالتوغ: «أشهر آلة موسيقية هي الأكورديون الشركسي (بشينه)، والذي يمتاز بصوته وشكله الفريدين من نوعهما. ومن ناحية أخرى، يعد الكمان الشركسي الذي تُصنَع أوتاره من ذيل الحصان (شيشا بشينه) من أقدم الآلات الموسيقية، واستُخدِم مع القصائد التراثية. أما الناي والطبول والآلات الوترية وآلات الإيقاع الخشبية فهي أيضًا من الآلات شائعة الاستخدام في الرقص التراثي».
وبأشكالها التي تخطف الأنظار وتطريزها الثري بالخيوط الذهبية وفخامتها اللافتة، فإن الزي الشركسي التراثي يعكس الثراء الثقافي. ويوضح شحالتوغ أن هذه الأزياء «مستوحاة من المراجع الثقافية القديمة والتصاميم التاريخية، وهو ما يعكس سمونا وذوقنا عبر الاستعانة بأقمشة عالية الجودة وملائمة للعمل المسرحي، دون التخلّي عن مكونات تصاميمنا التراثية». ويشير كسبي إلى أن «التماثيل والنقوش الحجرية المكتشفة في عمليات التنقيب عن الآثار بمنطقتي مايكوب وكوبان في القوقاز خلصت إلى أن الأزياء الشركسية تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وظلّت تتطوّر حتى القرن التاسع عشر. وصُمِّمَت هذه الأزياء وطُوِّرَت لتناسب البيئة المحيطة، ولتعكس شخصية المحاربين الشراكسة النبلاء والأقوياء والسيدات الجميلات المستقلات»، ويضيف: «تتميّز الأزياء الشركسية بطابعها العملي، وقد استخدم أسلافنا أجزاءً منها كأدوات عند الحاجة. فعند الصيد، استخدموا الجواكيت الكبيرة (شكوا) كخيمة، وفي الحرب استُخدِمَت أجزاء من الأزياء كوسائد وضمادات، إلخ».
وفي عالم المسرح، تسهم الأزياء مع الرقص في رسم أروع اللوحات الحيّة على خشبة أي مسرح. وهناك رقصات بطيئة مثل «قافا» و«زفقوا»، حيث «يُظهِر الرجال والنساء الاحترام بعضهم لبعض، ويرقصون على أطراف أصابعهم، ويستعرضون قوتهم البدنية والجسمانية على أفضل نحو»، على حد قول شحالتوغ. وعلى النقيض، فإن الرقصات السريعة، مثل «قاشوه بسينشا» و«شَشَن» و«ثلاباريش» و«جقو قافه» و«زاغاثلات»، “تحتفل بالنصر، وتستعرض القدرات البدنية للمشاركين، وتعمل على تحفيزهم نحو البطولة والشجاعة وتحاكي الأحداث المهمة والأبطال التاريخيين من خلال الغناء والرقص والهتاف»، كما يضيف شحالتوغ. وفي الوقت نفسه، تعدّ الرقصات الجماعية، مثل و«وج» و«حشت»، من الرقصات الشائعة في حفلات الزفاف، وتمثّل «طريقة مهذبة يتواصل الشباب من خلالها ويتعرفون بعضهم على بعض»، بحسب شحالتوغ.
وتختلف خطوات الرقص ومعانيه من الرجال إلى النساء. وعن ذلك يضيف شحالتوغ: «في حلقة الرقص التراثي (أديغا جاغو)، يختلف دور الرجل عن المرأة؛ حيث يُنتظَر من المرأة أن تُظهِر أنوثتها ورشاقتها وثقتها بنفسها ونبلها من خلال حركات ناعمة ودقيقة، بينما يُظهِر الرجال قوتهم ومهاراتهم ونبل أخلاقهم من خلال أداء حركات صعبة تتطلب سرعة وقوة بدنية. وبالطبع، يُنتظَر من كليهما الالتزام بتقاليدنا وإبداء الاحترام المتبادل واحترام الكبار، مع نقل المعرفة إلى جيل الشباب». ويعدّ نقل المعرفة والحفاظ على الثقافة من الموضوعات المتكررة في عروض الرقص وكذلك في أخلاقيات العمل لدى نادي الجيل الجديد. وعن ذلك يقول شحالتوغ: «المساهمة في الحفاظ على تراثنا تحتاج إلى جهود جماعية. ومن خلال التعاون مع آخرين ممن يشاركوننا شغفنا، يمكننا إحداث تأثير كبير في الحفاظ على ذكرى وطننا الأم والاحتفاء بها»، ويضيف: «يسهم نادي الجيل الجديد أيضًا في أرشفة تاريخنا رقميًا من خلال الصور الفوتوغرافية والوثائق والقصص الشخصية بهدف إنشاء مصدر شامل يسهل على الأجيال المقبلة والباحثين الوصول إليه» وتضم فرقة الجيل الجديد للفولكلور الشكرسي مناضلين معاصرين في سبيل تراثهم الثقافي، وهم أيضًا رُسُل للأمل والصمود. فمن خلال الفولكلور، تضمن الفرقة بقاء تراثها وقصصها حيّةً وصولاً للأجيال المقبلة. ويسلّط شحالتوغ الضوء على حقيقة مفادها أن «خطوات الرقص مستمدة أساسًا من خطوات الحصان، حيث توجد علاقة وطيدة لا تقبل الانفصام بين الحصان وراكبه». وكما يقول المثل الشركسي الشهير: «مَن لا يتقن الرقص لا يعرف كيف يحارب».
الموضوع ظهر للمرة الأولى على صفحات عدد سبتمبر 2023 من الكجلة