رحلة الحزن والألم.. أم وابنتها تسعيان لتحقيق العدالة بعد خسارة عائلتهما
بعد عام من فقداني لزوجي وابني في حادث أليم، اشارككم تجربتي الشخصية مع أكبر وجع يقدر لإنسان المرور به.
“كان زوجي دريم وابني يوسف من الشخصيات الرائعة التي تترك أثرًا دائمًا في العالم بطيبة قلوبهما. كانا يبديان حبهما وتعاطفهما مع كل شخص. وكانت علاقتي بهما شرفًا عظيمًا لي لعل الله يحبني فقط لأنهما مرا في حياتي. كنتُ دومًا أعتقد أن دريم وابننا الغالي يوسف سيكونان معي عندما أتقدم في العمر، سأركن على ابني وسيدللني كما كان يفعل دائماً على الرغم من صغر سنه ولكن الأمور لم تسر كما قُدِّرَ لها، وافترقنا سريعًا جداً.
على الرغم من أن خضنا الكثير من المغامرات الصيفية كأسرة مترابطة من أربعة أفراد، وسافرنا معًا حول العالم وزرنا أغلب القارات تقريبًا، وجمعنا الذكريات والتذكارات من جميع أركانه إلا أن الأقدار شاءت أن نفترق على أرض الوطن.
بدأت القصة في مصر، حيث التقيت أنا ودريم لأول مرة عن طريق مجموعة من الأصدقاء. ومن هنا، انطلقت رحلتنا معاً. تزوجنا يوم 4 أغسطس عام 2001، وكانت فرحتنا تفوق الوصف حين رُزِقْنا بابنتنا سما بعدها بعام في 29 سبتمبر 2002، فقد غمرت حياتنا نورًا وسعادةً. وفي عام 2003، انتقلنا نحن الثلاثة من القاهرة إلى أبوظبي لنبدأ فصلاً جديدًا من حياتنا معاً، وعشنا هناك في سعادة لمدة خمسة أعوام. وفي تلك الأثناء، لم نفكّر في إنجاب طفل آخر إلى أن أخبرتنا سما بأنها تريد أخًا لها. وكانت تلك نقطة تحوّل لأسرتنا حيث انتقلنا إلى دبي، مع مجيء يوسف وأحسسنا بأن أسرتنا اكتملت بولادته يوم 26 سبتمبر عام 2009، وقد أضفى على حياتنا لونًا جديدًا من السعادة والامتنان لله، فقد أبدى حكمة وطيبة تفوقان عمره الصغير وكنّا لا نفترق نحن الأربعة، وجمعتنا قصة حب كانت بمثابة تجسيد لاسم زوجي ’دريم‘ فكانت كالحلم وكان هو مصدر إلهام لنا جميعًا.
كان من الجلي منذ البداية أن دريم يتمتع بسمات قياديّة فطرية جعلته يبرز من بين أقرانه. كان له فكر ثاقب ومهارات تحليلية قوية أتاحت له فهم الأمور بعيدًا عن ظواهرها. كان دريم متميّزًا بحق في عمله، واستطاع سريعًا ارتقاء السلم الوظيفي حتى أصبح مديرًا في شركة أدوية عالمية شهيرة. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل مضى ليؤسس شركته الخاصة في قطاع الأدوية، بينما يضطلع بدوره المهم في منصب الأمين العام لجمعية أبحاث ومصنعي المستحضرات الصيدلانية الخليجية في الإمارات. وأبرز نجاحه الاستثنائي مدى تفانيه وعزمه وسعيه للتميّز. لقد كان ملهمًا لكل من تشرّف بمعرفته.
انطلقنا في مغامرات مثيرة ورحلات ملؤها الضحكات واللحظات التي لا تُنسى، والتي صارت ذكريات عزيزة في حياتنا الآن. ولم أكن أدري أن العطلة التي سنقضيها في وطننا مصر ستكون نهاية حياتنا معًا.
فجأة وقع الحادث الذي دمّر حياتنا في لمح البصر وسلبنا المستقبل الذي حلمنا به، وتركنا غارقين في الأحزان. حيث قضينا أنا وابنتي ثلاثة أشهر مؤلمة، لازمنا فيها الفراش دون حراك، نعاني من كسور نفسية لا تداوى إلى جانب كسور مضاعفة في عظام الحوض والقفص الصدري.
وقع الحادث في 26 يوليو عام 2022، كنتُ أنا ودريم ويوسف وسما على متن قارب مطاطي، رُبط بإحكام في يخت بحبل طويل. وفجأة ظهرت فتاة لا تنتبه لما حولها، حيث كان تركيزها منصبًّا على أصدقائها الذين كانوا يحاولون تصوير حركاتها المرحة بكاميراتهم أثناء انطلاقها على دراجة مائية “جت سكي” فائقة السرعة، متجاهلة التحذيرات العديدة ومواصلة للهو على الأمواج التي تخلّفها اليخوت المارة. جاءت نحونا مسرعة بلا مبالاة، واصطدمت بقاربنا المطاطي، مما أدى على الفور في خسارة عائلتي.
كان لاصطدام دراجتها المائية بالقارب المطاطي الذي كنا نستقلّه آثار مدمرة، فقد أدّى إلى وفاة زوجي البالغ من العمر 48 عامًا على الفور بسبب كسور شديدة في الجمجمة والجسم. أما ابني البالغ من العمر 12 عامًا، فقد ظل 14 يومًا في غيبوبة بعد وفاة والده، يعانى من كسور في الأضلاع وكسر في الحوض، ولكن الإصابة الأخطر كانت كسرًا في جمجمته هو الآخر، ما أدى إلى فقدانه الوعي. وعلى الرغم من أنه ناضل للبقاء على قيد الحياة، إلا أن الكسور كانت أشد منه وحالت دون استرداده لوعيه ولو لمرة أخيرة وتبع والده ورحل عن هذا العالم يوم 11 أغسطس 2022، قبل نحو شهر من عيد ميلاده الثالث عشر.
امتزج الألم النفسي الذي عشناه بألمنا الجسماني، وظلّت الكسور التي عانينا منها تذكِّرنا دومًا بذلك اليوم المشؤوم، لتترك داخلنا صدمة لا يزول أثرها مهما طال الوقت. وبعد ثلاثة أشهر، عندما غادرنا المستشفى أخيرًا، كان السعي لتحقيق العدالة هو أكثر ما يشغلنا. فمن المعروف أنه لا يجب السمَاح للدراجات المائية الحديدية أن تتحرك في نفس المكان الذي تتحرك فيه القوارب المائية المطاطية الممتلئة بالهواء (الدونات) – فهي لعبة مصممة لتضعنا في تحدي الحفاظ على توازننا وتحاول إسقاطنا في الماء، لنعاود مرة أخرى الصعود على متن القارب المطاطي.
فور خروجنا من المستشفى، تابعنا الأمر عن كثب مع محامينا، على أمل الحصول على إجابات حول سير القضية. ولكننا علمنا أن الفتاة المسؤولة عن الحادث قد أُطلِقَ سراحها، الأمر الذي خيّب آمالنا حقًا. ورغم أنها نالت حكم بالسجن لمدة ستة أشهر، إلا أنها مازالت حرة طليقة، بل ونجحت في الإفلات من تنفيذ الحكم حتى الآن.
وقع الحادث في قرية مارينا بالساحل الشمالي في مصر. والمثير للدهشة أن مارينا، على ما يبدو، قد نفضت يدها من أي عواقب ترتبط بدورها في الحادث. وكان أكثر ما يدعو للذهول هو اكتشاف أن جميع تراخيص الدراجات المائية قد انتهت صلاحيتها في عام 2016، ما يشير بوضوح إلى أنه لم يكن من المفترض تشغيلها أساسًا فكيف نجحت مارينا في تخطي القانون؟ زادنا علمنُا بهذه الحقائق بالإحباط كما عمق شعورنا بالغضب. وبدت لنا العدالة بعيدة المنال، وكأنها تنفلّت منّا كما تنفلّت الرمال من بين أصابعنا. ألا يجب أن ينال من ارتكب خطأ جسيماً ودمر أسرة وقتل فردين عقابه؟ على الرغم من أن الإجراءات القانونية تسير ببطء، إلا أننا لن نتوانى في سعينا لاستكمال القضية حتى نهايتها، مدفوعين بعزمنا الذي لا يتزعزع في الوصول إلى تحقيق ولو قدر يسير من العدالة.
تتجاوز رحلتنا مع الحزن والأسى كل الحدود والمسافات، تاركةً بصمة أبدية على حياتنا. فقد تعرّضت سما ابنتي أيضًا لإصابات خطيرة من جرّاء الحادث؛ فقد أصيبت بكسر في عظمة الترقوة اليسرى، وكسر في ثلاثة ضلوع، وكسور في جانبي الحوض من الأمام والخلف. أما أنا، فقد تحمّلت آلام كسور تسعة ضلوع، وكسور في الحوض الأمامي والخلفي. وبينما تلتئم هذه الجروح البدنية ببطء، يشكّل ثقل فقد زوجي وابني وجعاً لا يتبدد أبدًا؛ عبئًا يظل أثره باقيًا في مقاعدهم الفارغة في منزلنا، في أصداء صوتهما الذي أتوق إلى سماعه ولو لمرة واحدة أخيرة. إن الفراغ الذي تركاه وراءهما يذكرني دائمًا بالأحلام التي تشاركناها والمستقبل الذي كنّا نرسمه معًا.
فيما أحاول التأقلم مع وجودي بين القاهرة ودبي، سأظل أحمل في قلبي عبئًا ثقيلاً ملؤه الحزن والأسى. لقد خلق غياب زوجي دريم وابني يوسف فراغًا يطال أثره كل جانب من حياتي. ومع ذلك، سيظل يحتفظ دريم ويوسف بمكانة خاصة في قلبي إلى الأبد، وسأظل أسعى لتحقيق العدالة حتى آخر رمق في حياتي. فالاستيقاظ كل يوم ومعرفة أن الفتاة التي تسببت في وقوع الحادث لا تزال حرة طليقة يعتصر قلبي ألمًا. لقد تركتني أواجه الشعور بالظلم، وليس الفقد فقط في حين تتمتع هي بحياتها وكأن شيئاً لم يكن.
إلا أنه وفي خضم خسارتي الفادحة، تضيء ابنتي سما حياتي كشعاع نور. حيث يعكس اسمها تمامًا روحها الرحبة وينبوع الحب الذي لا ينضب الذي تزيّن به عالمي. ومن أجلها أستجمع قواي لأمضي قُدُمًا؛ إنها تستحق أن تحيا حياةً جميلة مثل روحها. أحاولُ جاهدةً لأن أقوم ليس فقط بدور الأم، بل أيضًا بدور الأب والأخ لها، متسللةً إلى الفراغ الذي تركه رحيل والدها المفاجئ وكذلك شقيقها الأصغر بداخلي ومستعينة بهما على مواجهة الحياة من أجلها ومن أجلها فقط أحاول القيام بذلك بكل ما أوتيت من قوة.
اكتشاف المزيد من اناقة أنثى
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.